هل جلب تبخير البيوت للسودانيين الحظ !!
تلك الشجرة المقدسة
هي خلاصة التعبير الذي أطلقه الفراعنة عليها، حين نعتوها بـ "شجرة الحياة"؛
فشجرة اللبان الذكر، أو " الضَّكَرْ" (كما في العامية السودانية)؛ نبتة ساحرة
طالما ارتبط ذكرها بالطقوس والعادات والأساطير في عصور السودان القديمة، وهي ما تزال،
حتى اليوم، تعكس حضورها المتعدّد الوجهة والمكان في المخيال الشعبي للسودانيين عبر
خزين لذاكرة تاريخية انطبعت جذورها بهوية الحياة وأسبابها القوية؛ حين تتعرض للتهديد
من كائنات خفية أو منظورة، من داخل أجسادهم أو خارجها
بخور التيمان... طقس وهوية!
وكما يعرف الزائر
للقاهرة عادة المصريين اليومية، صيفاً وشتاءً، في رشّ الماء أمام المقاهي والمطاعم
والبقالات، كذلك عرف السودانيون بتبخير البيوت والمتاجر كعادة يومية؛ جالبة للحظّ ودافعة
للضرر ،ولقد توفر السودانيون، منذ عصور حضارة كوش الأولى ومروراً بالعصور التاريخية
المختلفة للحضارات السودانية، على الاحتفاء بمزيج من الطقوس التي طبعت حياتهم وبقيت
إلى اليوم كأصداء باهتة لرسوم الديانات الوثنية القديمة في حياتهم العامة والخاصة،
كأنّ دخان البخور الذي تصاعد من أجسادهم عبر تلك العصور منح تلك الأجساد هوية أزلية
لحيواتهم المختلفة، فقد انطمست آثار الديانات، فيما ظلّ البخور متصاعداً من تلك الأجساد! ولطالما كان المفكر
السوداني الراحل، محمود محمد طه، يقول إنّه ورث من أسلافه الأفارقة: "حبّ الليل
والطبول والبخور"، وبطبيعة الحال؛ كان الأستاذ يقصد بالبخور هنا "بخور التيمان
وحين تحدث الروائي السوداني الكبير، الطيب صالح، عن روائح منزل جده في روايته الشهيرة
"موسم الهجرة إلى الشمال"، قال عنها: "خليط من روائح متناثرة، رائحة
البصل والشطة والتمر والقمح والفول واللوبيا والحلبة والبخور الذي يعبق دائماً في مجمر
الفخار الكبير ومن أمثال السودانيين السائرة:
"الكلام الطيب بخور البطن ، وقد لا يملك المرء تفسيراً لذلك الشغف ببخور اللبان
حيال استعمالاته المتعددة عبر التاريخ، إلا من خلال رصد علاقاته المتشابكة في حياة
السودانيين، نساءً ورجالاً، عبر طقوس وممارسات ما تزال حيّة في حياتهم ، فمن تلك العادات:
الختان، والزواج، وشرب القهوة، وتحصين الأطفال، كما مرّ بنا في أفاعل الجدات لأحفادهن
وحفيداتهن، وغير ذلك من العادات السودانية.
البخور والصوفية
من طقوس الصوفية
في السودان؛ أنّهم لا يوقدون مجامر البخور أثناء الذكر، لكن البخور، ولا سيما بخور
التيمان، جزء أصيل من هوية التصوف السوداني؛ فلطالما حفلت المساجد والخلاوي والزوايا
بروائح بخور التيمان آناء الليل وأطراف النهار ،فالصوفيون الذين دخلوا بالإسلام على
السودانيين عبر علاقات تديّن حرّ (بعد أن توقفت مسيرة الفتح العربي إلى السودان بقيادة
الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، رضي الله عنه، على حدود أسوان، وانتهت باتفاقية
صلح شهيرة عرفت باتفاقية البقط)، كان من ضمن المسكوت عنه في أساليبهم الدعوية الحكيمة
إلى الإسلام، غضّ الطرف عن العادات السودانية القديمة، وهذا ما جعل تلك العادات، بمرور
الزمن، جزءاً من طقوس التصوف ذاتها ومن المعروف أنّ لمشايخ الصوفية في السودان نيران
"خلاوي" عظيمة، وهي نيران توقد في الليل ويشتهر كلّ شيخ طريقة بنار معينة.
وأخيراً
بدت عادات السودانيين
مع بخور اللبان أو "بخور التيمان"، والبخور السودانية الأخرى، عبر صيروراتها
المختلفة علاقة مركبة لزمتهم عبر أطوار من الحقب الحضارية والتاريخية، وأنواع متعددة
من الديانات الوثنية والتوحيدية، ما يعكس لنا هوية متجذرة لتلك العادات "الدخانية"،
وتعبيراتها التي ظلت عصية على المحو، مهما اختلفت حولها التأويلات، وتعددت القراءات،
فكما يقول المثل السوداني السائر: "من خلّا عادته قلّت سعادته"؛ لا أحد يتبرع
في هذه الأزمنة بالتنازل عن مقادير السعادة الشحيحة أصلاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق